الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل فأنزل الله عليه يوماً فمكث ساعة ثم سري عنه فقرأ قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات من أولها. وقال: من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا اللهم أرضنا وأرض عنا» أخرجه الترمذي. قوله عزّ وجلّ {قد أفلح المؤمنون} قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة وقيل الفلاح البقاء والنجاة {الذين هم في صلاتهم خاشعون} قال ابن عباس: مخبتون أذلاّء خاضعون. وقيل خائفون وقيل: متواضعون وقيل الخشوع من أفعال القلب كالخوف والرهبة وقيل هو من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات وغض البصر. وقيل لا بد من الجمع بين أفعال القلب والجوارح وهو الأولى فالخاشع في صلاته لا بد وأن يحصل له الخشوع في جميع الجوارح، فأما ما يتعلق بالقلب من الأفعال فنهاية الخضوع والتذلل للمعبود ولا يلتفت الخاطر إلى شيء سوى ذلك التعظيم. وأما ما يتعلق بالجوارح فهو أن يكون ساكناً مطرقاً ناظراً إلى موضع سجوده. وقيل الخشوع هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على شماله (ق) عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» الاختلاس هو الاختطاف عن أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه» وفي رواية «أعرض عنه» أخرجه أبو داود والنسائي. وقيل الخشوع هو أن لايرفع بصره إلى السماء (خ) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» وقال أبو هريرة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزل {الذين هم في صلاتهم خاشعون} رمقوا بأبصارهم إلى موضع السجود. وقيل الخشوع هو أن لا يعبث بشيء من جسده في الصلاة لما روي «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» ذكره البغوي بغير سند. عن أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. وقيل الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة والإعراض عمّا سوى الله والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)} {والذين هم عن اللغو معرضون} قال ابن عباس عن الشرك وقيل عن المعاصي وقيل هو كل باطل ولهو ما لا يجمل من القول والفعل وقيل هو معارضة الكفار الشتم والسب {والذين هم للزكاة فاعلون} أي الزكاة الواجبة مؤدّون فعبر عن التأدية بالفعل لأنها فعل وقيل الزكاة ها هنا العمل الصالح والأول أولى {والذين هم لفروجهم حافظون} الفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة وحفظه التعفف عن الحرام {إلاّ على أزواجهم} على بمعنى من {أو ما ملكت أيمانهم} يعني الإماء والجواري والآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها {فإنهم غير ملومين} يعني بعدم حفظ فرجه من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك وإنما لا يلام فيما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور فلا يجوز ومن فعله فإنه ملوم {فمن ابتغى وراء ذلك} أي التمس وطلب سوى الأزواج والولائد وهن الجواري المملوكة {فأولئك هم العادون} أي الظالمون المجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام. وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام وهو قول أكثر العلماء. سئل عطاء عنه فقال: مكروه سمعت أن قوماً يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء وقال سعيد بن جبير عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. قوله عزّ وجلّ {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} أي حافظون يحفظون ما ائتمنوا عليه والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. والأمانات تختلف فمنها ما يكون بين العبد وبين الله تعالى كالصلاة والصوم وغسل الجنابة وسائر العبادات التي أوجبها الله تعالى على العباد فيجب الوفاء بجميعها. ومنها ما يكون بين العباد كالودائع والصنائع والأسرار وغير ذلك فيجب الوفاء به أيضاً {والذين هم على صلواتهم يحافظون} أي يداومون ويراعون أوقاتها وإتمام أركانها وركوعها وسجودها وسائر شروطها. فإن قلت كيف كرر ذكر الصلاة أولاً وآخراً. قلت هما ذكران مختلفان فليس تكراراً وصفهم أولاً بالخشوع في الصلاة وآخراً بالمحافظة عليها. قوله عزّ وجلّ {أولئك} يعني أهل هذه الصفة {هم الوارثون} يعني يرثون منازل أهل النار من الجنة. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فمن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» وذلك قوله تعالى: {أولئك هم الوارثون} ذكره البغوي بغير سند وقيل معنى الوراثة هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يئول أمر الميراث إلى الوارث.
{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} {الذين يرثرون الفردوس} هو أعلى الجنة. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس» أخرجه الترمذي {هم فيها خالدون} أي لا يخرجون منها ولايموتون. قوله عزّ وجلّ {ولقد خلقنا الإنسان} يعني ولد آدم الإنسان اسم جنس {من سلالة من طين} قال ابن عباس السلالة صفوة الماء وقيل هي المني لأن النطفة تسل من الظهر من طين يعني طين آدم لأن السلالة تولدت من طين خلق منه آدم وقيل: المراد من الإنسان هو آدم، وقوله من سلالة أي سل من كل تربة {ثم جعلناه نطفة} يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة {في قرار مكين} أي حريز وهو الرحم وسمي مكيناً لاستقرار النطفة فيه إلى وقت الولادة {ثم خلقنا النطفة علقة} أي صيرنا النطفة قطعة دم جامد {فخلقنا العلقة مضغة} أي جعلنا الدم الجامد قطعة لحم صغيرة {فخلقنا المضغة عظاماً فسكونا العظام لحماً} وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالسكوة له. قيل إن بين كل خلق وخلق أربعين يوماً {ثم أنشأناه خلقاً آخر} أي مبايناً للخلق الأول قال ابن عباس: هو نفخ الروح فيه وقيل جعله حيواناً بعد ما كان جماداً وناطقاً بعدما كان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره عجائب صنعه وغرائب فطره وعن ابن عباس قال: إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الرضاع إلى القعود والقيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها {فتبارك الله} أي استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال {أحسن الخالقين} أي المصورين والمقدرين. فإن قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى {الله خالق كل شيء} وقوله {هل من خالق غير الله؟} قلت الخلق له معان: منها الإيجاد والإبداع ولا موجد ولا مبدع إلاّ الله تعالى. ومنها التقدير كما قال الشاعر: ولأنت تفري ماخلقت وبع *** ض القوم يخلق ثم لا يفري معناه أنت تقدّر الأمور وتقطعها وغيرك لا يفعل ذلك فعلى هذا يكون معنى الآية الله أحسن المقدرين. وجواب آخر وهو أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام خلق طيراً وسمّى نفسه خالقاً بقوله {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير} فقال {تبارك الله أحسن الخالقين} {ثم إنكم بعد ذلك} أي بعد ما ذكر من تمام الخلق {لميتون} أي عند انقضاء آجالكم {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} أي للحساب والجزاء. قوله عزّ وجلّ {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} يعني سبع سموات طرائق لأن بعضها فوق بعض وقيل لأنها طرائق الملائكة في الصعود والهبوط {وما كنا عن الخلق غافلين} يعني بل كنا لهم حافظين من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم. وقيل معناه بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب. وقيل ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي وقيل معناه إنما خلقنا السماء فوقهم لتنزل عليهم الأرزاق والبركات منها. وقيل معناه وما كنا عن الخلق غافلين أي عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم لا تخفى علينا خافية {وأنزلنا من السماء ماء بقدر} أي يعلمه الله من حاجتهم إليه وقيل بقدر ما يكفيهم لمعايشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة {فأسكناه في الأرض} يعني ما يبقى في الغدران والمستنقعات مما ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر. وقيل أسكناه في الأرض ثم أخرجناه منها ينابيع كالعيون والآبار فكل ماء في الأرض من السماء {وإنّا على ذهاب به لقادرون} وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» أخرجه مسلم. وعن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله عزّ وجلّ أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، أنزلها الله عزّ وجلّ من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس فذلك قوله {وأنزلنا من السماء ماء بدر فأسكناه في الأرض} فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عزّ وجلّ جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى {وإنا على ذهاب به لقادرون} فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا» وروى هذا الحديث البغوي في تفسيره. وقال روى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان بن عثمان بن سعيد بالإجازة عن سعيد بن سابق الإسكندارني عن مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس. ثم ذكر ما أنبت بالماء.
{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)} فقال تعالى: {فأنشأنا لكم به} أي بالماء {جنات} أي بساتين {من نخيل وأعناب} إنما أفردهما بالذكر لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفواكة رطباً ويابساً {لكم فيها} أي في الجنات {فواكة كثيرة ومنها تأكلون} أي شتاءً وصيفاً {وشجرة} أي وأنشأنا لكم شجرة وهي الزيتون {تخرج من طور سيناء} أي من جبل مبارك وقيل من جبل حسن قيل هو بالنبطية وقيل بالحبشة وقيل السريانية ومعناه الجبل الملتف بالأشجار. وقيل كل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سيناء وسينين وقيل هو من السناء وهو الارتفاع وهو الجبل الذي منه نودي موسى بين مصر وإيلة وقيل هو جبل فلسطين وقيل سيناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. وقيل هو اسم المكان الذي فيه هذا الجبل {تنبت بالدهن} أي تنبت وفيها الدهن وقيل تنبت بثمر الدهن وهو الزيت {وصبغ للآكلين} الصبغ الأدام الذي يكون مع الخبز ويصبغ به جعل الله في هذه الشجرة المباركة أدماً وهو الزيتون ودهناً وهو الزيت وخصّ جبل الطور بالزيتون لأنه منه نشأ وقيل إن أول شجرة نبتت بعد الطوفان الزيتون وقيل إنها تبقى في الأرض نحو ثلاثة آلاف سنة. قوله عزّ وجلّ {وإن لكم في الأنعام لعبرة} أي أية تعتبرون بها {نسقيكم مما في بطونها} أي ألبانها ووجه الاعتبار فيه أن اللبن يخلص إلى الضرع من بين فرث ودم بإذن الله تعالى ليس فيه منهما شيء فيستحيل إلى الطهارة وإلى طعم يوافق الشهوة والطبع ويصير غذاء، وتقدّم بسط الكلام بما فيه كفاية في سورة النحل {ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون} يعني كما تنتفعون بها وهي حية فكذلك تنتفعون بها بعد الذبح للأكل {وعليها} أي وعلى الإبل {وعلى الفلك تحملون} أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر. قوله تعالى {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} أي ما لكم معبوداً سواه {أفلا تتقون} أي أفلا تخافون عاقبة إذا عبدتم غيره {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم} أي آدمي مثلكم مشارك لكم في جميع الأمور {يريد أن يتفضل عليكم} أي إنه يحب الشرف والرياسة متبوعاً وأنتم له تبع {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} يعني بإبلاغ الوحي {ما سمعنا بهذا} يعني الذي يدعونا إليه نوح {في آياتنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة} يعني جنون {فتربصوا به حتى حين} يعني إلى الموت فتستريحوا منه {قال رب انصرني بما كذبون} يعني أعني بإهلاكهم بتكذيبهم إياي {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا} يعني بمرأى منا قاله ابن عباس. وقيل بعلمنا وحفظنا لئلا يتعرض له أحد ولا يفسد عليه عمله {ووحينا} قيل: إن جبريل علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها {فإذا جاء أمرنا} يعني عذابنا {وفار التنور} قيل هو التنور الذي يخبز فيه وكان من حجارة، وقيل التنور هو وجه الأرض والمعنى أنك إذا رأيت الماء يفور من التنور {فاسلك فيها} يعني فأدخل في السفينة {من كل زوجين اثنين} يعني من كل حيوان ذكر وانثى {وأهلك} يعني وسائر من آمن بك {إلا من سبق عليه القول} يعني وجب عليه العذاب {منهم} يعني الكفار وقيل أراد بأهله أهل بيته خاصة والذي سبق عليه القول منهم هو ابنه كنعان {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} قوله عزّ وجلّ {فإذا استويت} يعني اعتدلت {أنت ومن معك على الفلك} يعني في السفينة {فقل الحمد لله الذين نجانا من القوم الظالمين} يعني الكافرين {وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً} قيل موضع النزول وهو السفينة عند الركوب. وقيل هو وجه الأرض بعد الخروج من السفينة وأراد بالبركة النجاة من الغرق وكثرة النسل بعد الإنجاء {وأنت خير المنزلين} معناه أنه قد يكون الإنزال من غير الله كما يكون من الله فحسن أن يقول وأنت خير المنزلين لأنه يحفظ من أنزله ويكلؤه في سائر أحواله ويدفع عنه المكره بخلاف منزل الضيف فإنه لا يقدر على ذلك.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)} {إن في ذلك} يعني الذي ذكر من أمر نوح والسفينة وإهلاك أعداء الله {لآيات} يعني دلالات على قدرتنا {وإن كنا} يعني وما كنا {لمبتلين} يعني إلا مختبرين إياهم بإرسال نوح ووعظه وتذكيره لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم. قوله تعالى {ثم أنشأنا من بعدهم} يعني من بعد إهلاكهم {قرناً آخرين} يعني عاداً {فأرسلنا فيه رسولاً منهم} يعني هوداً قاله أكثر المفسرين وقيل القرن ثمود والرسول صالح والأول أصح {إن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون} يعني هذه الطريقة التي أنتم عليها مخافة العذاب {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة} يعني بالمصير إليها {وأترفناهم} يعني نعمناهم ووسعنا عليهم {في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون} يعني من مشاربكم {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} يعني لمغبونون {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} يعني من قبوركم أحياء {هيهات هيهات} قال ابن عباس أي بعيد بعيد {لما توعدون} استبعد القوم بعثهم بعد الموت إغفالاً منهم للتفكر في بدء أمرهم وقدرة الله على إيجادهم وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبداً {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا} قيل معناه نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث وقيل يموت الآباء ويحيا الأبناء وقيل معناه يموت قوم ويحيا قوم {وما نحن بمبعوثين} يعني بعد الموت {إن هو} يعنون رسولهم {إلا رجل افترى على الله كذباً وما نحن له بمؤمنين} يعني بمصدقين بالبعث بعد الموت {قال رب انصرني بما كذبون قال عمّا قليل ليصبحن} يعني ليصيرن {نادمين} على كفرهم وتكذيبهم {فأخذتهم الصيحة بالحق} يعني صيحة العذاب وقيل صاح بهم جبريل فتصدعت قلوبهم وقيل أراد بالصيحة الهلاك {فجعلناهم غثاء} هو ما يحمله السيل من حشيش وعيدان الشجر، والمعنى صيرناهم هلكى فيبسوا يبس الغثاء من بنات الأرض {فبعداً} يعني ألزمنا بعداً من الرحمة {للقوم الظالمين}. قوله عز وجل {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين} يعني أقواماً آخرين {ما تسبق من أمة أجلها} يعني وقت هلاكها {وما يستأخرون} يعني عن وقت هلاكهم {ثم أرسلنا رسلنا تترى} يعني مترادفين يتبع بعضهم بعضاً غير متواصلين لأن بين كل رسولين زمناً طويلاً {كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً} يعني بالهلاك فأهلكنا بعضهم في أثر بعض {وجعلناهم أحاديث} يعني سمراً وقصصاً يتحدث من بعدهم بأمرهم وشأنهم {فبعداً لقوم لا يؤمنون}.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} قوله تعالى: {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين} يعني بحجة بينة كالعصا واليد وغيرهما {إلى فرعون وملئه فاستكبروا} يعني تعظموا عن الإيمان {وكانوا قوماً عالين} يعني متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم {قالوا} يعني فرعون وقومه {أنؤمن لبشرين مثلنا} يعنون موسى وهارون {وقومهما لنا عابدون} يعني مطيعون متذللون {فكذبوهما فكانوا من المهلكين} يعني بالغرق {ولقد آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة {لعلهم يهتدون} يعني لكي يهتدي به قومه. قوله عزّ وجلّ {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} يعني دلالة على قدرتنا لأنه خلقه من غير ذكر وأنطقه في المهد. فإن قلت لم قال آية ولم يقل آيتين. قلت معناه جعلنا شأنهما آية لأن عيسى ولد من غير ذكر وكذلك مريم ولدته من غير ذكر فاشتركا في هذه الآية فكانت آية واحدة {وآويناهما إلى ربوة} يعني مكان مرتفع قيل هي دمشق وقيل هي الرملة وقيل أرض فلسطين وقال ابن عباس هي بيت المقدس. قال كعب بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً. وقيل هي مصر وسبب الأيواء أنها فرت بابنها إليها. وقوله {ذات قرار} يعني منبسطة واسعة يستقر عليها ساكنوها {معين} هو الماء الجاري الذي تراه العيون. قوله تعالى {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} قيل أراد بالرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وحده وقيل أراد به عيسى عليه السلام وقيل أراد جميع الرسل وأراد بالطيبات الحلال {واعملوا صالحاً} أي استقيموا على ما يوجبه الشرع {إني بما تعملون عليم} فيه تحذير من مخالفة ما أمرهم به وإذا كان الرسل مع علو شأنهم كذلك فلأن يكون تحذيراً لغيرهم أولى لما روي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} وقال {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك» أخرجه مسلم. قوله عزّ وجلّ {وإن هذه أمتكم} أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها {أمة واحدة} أي ملة واحدة وهي الإسلام {وأنا ربكم فاتقون} أي فاحذرون وقيل معناه أمرتكم بما أمرت به المرسلين قبلكم فأمركم واحد وأنا ربكم فاتقون {فتقطعوا} أي تفرقوا فصاروا فرقاً يهوداً ونصارى ومجوساً وغير ذلك من الأديان المختلفة {أمرهم} أي دينهم {بينهم وزيراً} أي فرقاً وقطعاً مختلفة وقيل معنى زبراً أي كتباً، والمعنى تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب {كل حزب بما لديهم فرحون} أي مسرورون معجبون بما عندهم من الدين {فذرهم} الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم {في غمرتهم} قال ابن عباس في كفرهم وضلالتهم وقيل في عمايتهم وغفلتهم {حتى حين} أي إلى أن يموتوا {أيحبسون أنما نمدهم به من مال وبنين} أي ما نعطيهم ونجعله لهم مدداً من المال والبنين في الدنيا {نسارع لهم في الخيرات} أي نعجل لهم ذلك في الخيرات ونقدمه ثواباً لأعمالهم لمرضاتنا عنهم {بل لا يشعرون} أي إن ذلك استدراج لهم ثم ذكر المسارعين في الخيرات فقال تعالى {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي خائفون، والمعنى أن المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عقابه. قال الحسن البصري المؤمن جمع إحساناً وخشية والمنافق جمع إساءة وأمناً {والذين هم بآيات ربهم يؤمنون} يعني يصدقون {والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا} أي يعطون ما أعطوا من الزكامة والصدقات. وقيل معناه يعملون ما عملوا من أعمال البر {وقلوبهم وجلة} أي خائفة أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأنّ أعمالهم لا تقبل منهم {أنهم إلى ربهم راجعون} أي إنهم يوقنون أنهم إلى الله صائرون. قال الحسن عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم. عن عائشة قالت: «قلت يا رسول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجله هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصدّيق ولكن هم الذي يصومون ويتصدّقون ويخافون أن لا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات» أخرجه الترمذي.
{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} وقوله: {أولئك يسارعون في الخيرات} أي يبادرون إلى الأعمال الصالحة {وهم لها سابقون} أي إليها وقال ابن عباس سبقت لهم من الله السعادة وقيل سبقوا الأمم إلى الخيرات. قوله عزّ وجلّ {ولا نكلف نفساً إلا وسعها} أي طاقتها من الأعمال، فمن لم يستطع القيام فليصل قاعداً ومن لم يستطع الصوم فليفظر {ولدينا كتاب} هو اللوح المحفوظ {ينطق بالحق} أي يبين الصدق والمعنى قد أثبتنا عمل كل عامل في اللوح المحفوظ فهو ينطق به ويبينه وقيل هو كتاب أعمال العباد التي تكتبها الحفظة {وهم لا يظلمون} أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ثم ذكر الكفار فقال تعالى {بل قلوبهم في غمرة} أي غفلة وجهالة {من هذا} يعني القرآن {ولهم أعمال} أي للكفار أعمال خبيثة من المعاصي والخطايا محكومة عليهم {من دون ذلك} يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله في قوله {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} {هم} يعني الكفار {لها} أي لتلك الأعمال الخبيثة {عاملون} أي لا بد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة {حتى إذا أخذنا مترفيهم} أي رؤساءهم وأغنياءهم {بالعذاب} قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر وقيل هو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف» {إذا هم يجأرون} أي يصيحون ويستغيثون ويجزعون {لا تجأروا اليوم} يعني لا تجزعوا ولا تضجوا اليوم {إنكم منا لا تنصرون} يعني لا تمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم {قد كانت آياتي تتلى عليكم} يعني القرآن {فكنتم على أعقابكم تنكصون} يعني ترجعون القهقرى وتتأخرون عن الإيمان {مستكبرين} قال ابن عباس: أي بالبيت الحرام كناية عن غير مذكور أي مستعظمين بالبيت وذلك أنهم كانوا يقولون نحن أهل حرم الله وجيران بيته فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحداً فيأمنون فيه وسائر الناس في الخوف. وقيل مستكبرين به أي بالقرآن فلم يؤمنوا به والقول الأول أظهر {سامراً} يعني أنهم يسمرون بالليل حول البيت وكان عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً أو شعراً ونحو ذلك من القول فيه وفي النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قوله {تهجرون} من الإهجار وهو الإفحاش في القول وقيل معنى تهجرون تعرضون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان به وبالقرآن وقيل هو من الهجر وهو القول القبيح أي تهذبون وتقولون ما لا تعلمون {أفلم يدبروا القول} يعني أفلم يتدبروا ما جاءهم من القرآن فيعتبرون بما فيه من الدلالات الواضحة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم {أم جاءهم مالم يأت آباءهم الأولين} يعني فأنكروا يريد إنا قد بعثنا من قبلهم رسلاً إلى قومهم فكذلك بعثنا محمداً صلى الله عليه وسلم {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} قال ابن عباس: أليس قد عرفوا محمداً صلّى الله عليه وسلم صغيراً وكبيراً وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه بعد ما عرفوه بالصدق والأمانة {أم يقولون به جنة} أي جنون وليس هو كذلك {بل جاءهم بالحق} بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل {وأكثرهم للحق كارهون}. قوله عزّ وجلّ {ولو اتبع الحق أهواءهم} قيل الحق هو الله تعالى والمعنى ولو اتبع الله مرادهم فيما يفعل. وقيل: لو سمى لنفسه شريكاً وولداً كما يقولون وقيل: الحق هو القرآن أي لو نزل القرآن بما يحبون وما يعتقدون {لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} أي لفسد العالم {بل أتيناهم بذكرهم} قال ابن عباس بما فيه شرفهم وفخرهم وهو القرآن {فهم عن ذكرهم} أي شرفهم {معرضون}.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)} {أم تسألهم} أي على ما جئتهم به {خرجاً} أي أجراً وجعلاً {فخراج ربك خير} أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير {وهو خير الرازقين} تقدم تفسيره {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} أي إلى دين الإسلام {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط} أي عن دين الحق {لناكبون} أي لعادلون عنه ومائلون {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر} أي قحط وجدوبة {للجوا} أي لتمادوا {في طغيانهم يعمهون} أي لم ينزعوا عنه {ولقد أخذناهم بالعذاب} وذلك أنّ النبيّ دعا على قريش أن يجعل الله عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم القحط. فجاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى فقال: إنهم قد أكلوا القد والعظام وشكا إليه الضر فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية {فما استكانوا لربهم} ما خضعوا وما ذلوا لربهم {وما يتضرعون} أي لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم {حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد} قال ابن عباس يعني القتل يوم بدر وقيل الموت وقيل هو قيام الساعة {إذا هم فيه مبلسون} أي آيسون من كل خير. قوله عزّ وجلّ {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة} أي لتسمعوا بها وتبصروا وتعقلوا {قليلاً ما تشكرون} أي لم تشكروا هذه النعم {وهو الذي ذرأكم في الأرض} أي خلقكم {وإليه تحشرون} أي تبعثون {وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار} أي تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان وقيل جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض {أفلا تعقلون} أي ما ترون من صنعه فتعتبروا {بل قالوا مثل ما قال الأولون} أي كذبوا كما كذب الأولون، وقيل معناه أنكروا البعث مثل ما أنكر الأولون مع وضوح الأدلة {قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون} أي لمحشورون قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب {لقد وعدنا نحن} أي هذا الوعد {وآباؤنا هذا من قبل} أي وعد آباؤنا قوم ذكروا أنهم رسل الله فلم نر له حقيقة {إن هذا إلاّ أساطير الأولين} أي أكاذيب الأولين. قوله تعالى {قل} أي يا محمد لأهل مكة {لمن الأرض ومن فيها} من الخلق {إن كنتم تعلمون} أي خالقها ومالكها {سيقولون لله} أي لا بد لهم من ذلك لأنهم يقرون أنها مخلوقة لله {قل} أي قل لهم يا محمد إذا أقروا بذلك {أفلا تذكرون} أي فتعلموا أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت {قل رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون} أي عبادة غيره وقيل معناه أفلا تحذرون عقابه {قل من بيده ملكوت كل شيء} أي ملك كل شيء {وهو يجير} أي يؤمن من يشاء {ولا يجار عليه} أي لا يؤمن من أخافه الله وقيل يمنع هو من يشاء من السوء ولا يمتنع منه من أراده بسوء {إن كنتم تعلمون} أي فأجيبوا.
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} {سيقولون لله قل فأنى تسحرون} أي فأنّى تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته وكيف يخيل لكم الحق باطلاً {بل أتيناهم بالحق} أي بالصدق {وإنهم لكاذبون} أي فيما يدعون من الشريك والولد {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله} أي من شريك {إذاً لذهب كل إله بما خلق} أي لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه ولم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ومنع كل إله الآخر عن الاستيلاء على ما خلقه هو {ولعلا بعضهم على بعض} أي طلب بعضه مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم وإذا كان كذلك فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء ويقدر على كل شيء ثم نزه نفسه تعالى فقال {سبحان الله عمّا يصفون} أي من إثبات الولد والشريك {عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون} أي تعظم من أن يوصف بما لا يليق به. قوله عزّ وجلّ {قل رب} أي يا رب {إما تريني ما يوعدون} أي ما وعدتهم من العذاب {رب} أي يا رب {فلا تجعلني في القوم الظالمين} أي تهلكني بهلاكهم {وإنا على أن نريك ما نعدهم} أي من العذاب {لقادرون ادفع بالتي هي أحسن} يعني بالخلة التي هي أحسن وهي الصفح والإعراض والصبر {السيئة} يعني أذاهم أمر بالصبر على أذى المشركين والكف عن المقاتلة ثم نسخها الله بآية السيف {نحن أعلم بما يصفون} أي يكذبون ويقولون من الشرك. قوله عزّ وجلّ {وقل رب أعوذ بك} أي أمتنع وأعتصم بك {من همزات الشياطين} قال ابن عباس نزغاتهم وقيل وساوسهم وقيل نفخهم ونفثهم وقيل دفعهم بالإغواء إلى المعاصي {وأعوذ بك رب أن يحضرون} أي من شيء من أموري وإنما ذكر الحضور لأن الشيطان إذا حضره يوسوس له عن جبير بن مطعم أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة قال عمر ولا أدري أي صلاة هي قال: «الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً ثلاثاً وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه. قال نفثه الشعر ونفخه الكبر وهمزه الموتة» أخرجه أبو داود وقد جاء تفسير هذه الألفاظ في متن الحديث وتزيده إيضاحاً قوله نفثه الشعر أي لأن الشعر تخرج من القلب فيلفظ به اللسان وينفثه كما ينفث الريق. قوله ونفخه الكبر وذلك أن المتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه فيحتاج إلى أن ينفخ. وقوله وهمزه الموتة الموتة الجنون لأنه المجنون ينخسه الشيطان ثم أخبر الله عزّ وجلّ أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال تعالى {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون} قيل المراد به الله وهو على عادة العرب فإنهم يخاطبون الواحد بلفظ الجمع على وجه التعظيم. وقيل هذا خطاب مع الملائكة الذي يقبضون روحه فعلى هذا يكون معناه أن استغاث بالله أولاً ثم رجع إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا. وقيل ذكر الرب للقسم فكأنه قال عند المعاينة بحق الله ارجعون {لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} أي ضيعت وقيل تركت أي منعت وقيل خلفت من التركة أو المعنى أقول لا إله إلا الله وأعمل بطاعته فيدخل فيه الأعمال البدنية والمالية قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله أمراً عمل فيما تمناه الكافر إذ رأى العذاب {كلا} كلمة ردع وزجر أي لا يرجع إليها {إنها} يعني مسألته الرجعة {كلمة هو قائلها} أي لا ينالها {ومن ورائهم برزخ} أي من أمامهم ومن بين أيديهم حاجز {إلى يوم يبعثون} معناه أن بينهم وبين الرجعة حجاباً ومانعاً عن الرجوع وهو الموت وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. قوله تعالى {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم} قال ابن عباس إنها النفخة الأولى في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض فلا أنساب بينهم {يومئذٍ ولا يتساءلون} ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية. قال: «يؤخذ بيد العبد والأمَة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي منادٍ هذا فلان ابن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه ثم قرأ ابن مسعود {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} وفي رواية عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم يعني لا يتفاخرون بالأنساب يومئذٍ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيلة أنت ولم يرد أن الأنساب تنقطع. فإن قلت قد قال ها هنا ولا يتساءلون وقال في موضع آخر وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قلت قال ابن عباس إن للقيامة أحوالاً ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون.
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)} قوله عزّ وجلّ: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا} أي غبنوا {أنفسهم في جهنم خالدون تلفح} أي تسفح وقيل تحرق {وجوههم النار وهم فيها كالحون} أي عابسون وقد بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم كالرأس المشوي على النار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وهم فيها كالحون قال تشويه النار فتنقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. قوله تعالى {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} يعني قوارع القرآن وزواجره تخوفون بها {فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا} أي التي كتبت علينا فلم نهتد {وكنا قوماً ضالين} أي عن الهدى {ربنا أخرجنا منها} أي من النار {فإن عدنا} إي لما تكره {فإنا ظالمون قال اخسؤوا فيها} أي ابعدوا فيها كما يقال للكلب إذا طرد أخسأ {ولا تكلمون} أي في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم فعند ذلك إيس المساكين من الفرج. قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعد ذلك ما هو إلا الزفير والشهيق وعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون. وروي عن عبد الله بن عمرو «إن أهل جهنم يدعون مالكاً خازن جهنم أربعين عاماً يا مالك ليقض علينا ربك فلا يجيبهم ثم يقول إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون فيما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق». ذكره البغوي بغير سند وأخرجه الترمذي بمعناه عن أبي الدرداء قوله فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة أي سكتوا ولم يتكلموا بكلمة وقيل إذا قال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم {إنه كان فريق من عبادي} يعني المؤمنين {يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخرياً} أي تسخرون منهم وتستهزئون بهم {حتى أنسوكم ذكري} اشتغالكم بالاستهزاء بهم ذكري {وكنتم منهم تضحكون} نزل في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل بلال وعمار وصهيب وخباب ثم قال الله {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} أي على أذاكم واستهزائكم في الدنيا {أنهم هم الفائزون} أي جزيتهم بصبرهم الفوز بالجنة {قال} يعني أن الله قال للكفار يوم البعث {كم لبثتم في الأرض} أي في الدنيا وفي القبور {عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} معناه أنهم نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بصدده من العذاب {فاسأل العادين} يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم {قال إن لبثتم} أي ما لبثتم في الدينا {إلاّ قليلا} سماه قليلا لأن المرء وإن طال لبثه في الدنيا. فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة {لو أنكم كنتم تعلمون} يعني قدر لبثكم في الدنيا.
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} قوله عزّ جلّ: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} أي لعباً وباطلاً لا لحكمة وقيل العبث معناه لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب وإنما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزّ وجلّ {وأنكم إلينا لا ترجعون} أي في دار الآخرة للجزاء. روى البغوي بسنده عن الحسن: «أن رجلاً مصاباً مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا رقيت في أذنه فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على الجبل لزال» ثم نزه الله تعالى عمّا يصفه به المشركون فقال عزّ وجلّ {فتعالى الله الملك الحق} أي هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات {لا إله إلا هو رب العرش الكريم} أي الحسن وقيل الرفيع المرتفع وإنما خصّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به} يعني لا حجة ولا بينة له به إذ لا يمكن إقامة برهان ولا دليل على إلهية غير الله ولا حجة في دعوى الشرك {فإنما حسابه} أي جزاؤه {عند ربه} أي هو مجازيه بعلمه {إنه لا يفلح الكافرون} يعني لا يسعد من جحد وكذب {وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين}.
{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)} قوله عزّ وجلّ {سورة أنزلناها وفرضناها} أي أوجبنا ما فيها من الأحكام وألزمناكم العمل بها وقيل معناه قدرنا ما فيها من الحدود وقيل أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم، إلى قيام الساعة {وأنزلنا فيها آيات بينات} أي واضحات {لعلكم تذكرون} يعني تتعظون.
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} الزنا هو من الكبائر وموجب للحد وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً. والشروط المعتبرة في وجوب الحد العقل والبلوغ ويشترط الإحصان في الرجم ويجب على العبد والأمة نصف الحد ولا رجم عليهما لأنه لا يتنصف وقوله فاجلدوا أي فاضربوا يقال جلده إذا ضرب جلده ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم كل واحد منهما أي الزانية والزاني مائة جلدة. وقد وردت السنة بجلد مائة وتغريب عام وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة التغريب إلى رأي الإمام وقال مالك يجلد الرجل مائة جلدة ويغرب وتجلد المرأة ولا تغرب وإن كان الزاني محصناً فعليه الرحم {ولا تأخذكم بهما رأفة} أي رحمة ورقة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها. وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي الشعبي وقيل معنى الرأفة أن تحفظوا الضرب بل أوجعوهما ضرباً وهو قول سعيد بن المسيب والحسن. قال الزهري يجتهد في حد الزنا والفرية أي القذف ويخفف في حد الشرب وقيل يجتهد في حد الزنا ويخفف دون ذلك في حد الفرية دون ذلك في حد الشرب {في دين الله} أي في حكم الله. وروي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد اضرب ظهرها ورجليها فقال له ابنه ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله فقال يا بني إن الله لم يأمرني بقتلها وقد ضربت فأوجعت {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} معناه أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله وقيل هو من باب التهييح، والتهاب التغضب لله تعالى ولدينه ومعناه إن كنتم تؤمنون فلا تتركوا إقامة الحدود {وليشهد} يعني وليحضر {عذابهما} أي حدهما إذا أقيم عليهما {طائفة} يعني نفر {من المؤمنين} قيل أقله رجل واحد فصاعداً وقيل رجلان وقيل ثلاثة وقيل أربعة بعدد شهود الزنا. قوله عزّ وجلّ {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها فقال قوم قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر وفي المدنية نساء بغايا هنّ أخصب أهل المدينة فرغب ناس من فقراء المسليمن في نكاحهن لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فنزلت هذه الآية فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا لأنهنّ كن مشركات. وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والشعبي ورواية عن ابن عباس. وقال عكرمة نزلت في نساء كن بمكة والمدينة لهن رايات يعرفن بها منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي. وكان في الجاهلية ينكح الزانية يتخذها مأكله فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الصفة فاستأذن رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح أم مهزول واشترطت له أن تنفق عليه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رجل يقال له مرثد بن مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له في الجاهلية فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها. فقال مرثد إن الله حرم الزنا قالت فانكحني فقال حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أنكح عناقاً؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد شيئاً فنزلت الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال لا تنكحها» أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود بألفاظ متقاربة المعنى فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصاً في حق أولئك دون سائر الناس. وقال قوم المراد من النكاح هو الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة والزانية لا تزني إلا بزانٍ أو مشرك. وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك ورواية عن ابن عباس قال يزيد بن هارون إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك وإن جامعها وهو محرم فهو زانٍ. وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان وقال سعيد بن المسيب وجماعة إن حكم الآية منسوخ وكان نكاح الزانية حراماً بهذه الآية ثم نسخت بقوله تعالى {وأنكحوا الأيامى منكم} فدخلت الزانية في هذا العموم واحتج من جوز نكاح الزانية بما روي عن جابر: «أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس فقال طلقها قال إني أحبها وهي جميلة قال استمتع بها» وفي رواية غيره فأمسكها إذاً وروى هذا الحديث أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال النسائي رفعه أحد الرواة إلى ابن عباس ولم يرفعه بعضهم قال وهذا الحديث ليس بثابت. وروي أنّ عمر بن الخطاب ضرب رجلاً وامرأة في زنا وحرص على أن يجمع بينهما فأبى الغلام وقيل في معنى الآية إن الفاجر الخبيث لا يرغب في نكاح الصالحة من النساء وإنما يرغب في نكاح فاجرة خبيثة مثله أو مشركة والفاسقة الخبيثة لا ترغب في نكاح الصلحاء من الرجال وإنما ترغب في نكاح فاسق خبيث مثلها أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين أي صرف الرغبة بالكلية إلى نكاح الزواني وترك الرغبة في الصالحات العفائف محرم على المؤمنين ولا يلزم من حرمة هذا حرمة التزوج بالزانية.
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} قوله: {والذين يرمون} أي يقذفون بالزنا {المحصنات} يعني المسلمات الحرائر العفائف {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} أي يشهدون على الزنا {فاجلدوهم ثمانين جلدة} بيان حكم الآية أن من قذف محصناً أو محصنة بالزنا فقال له: يا زاني أو يا زانية أو زنيت فيجب عليه جلد ثمانين إن كان القاذف حراً وإن كان عبداً يجلد أربعين وإن كان المقذوف غير محصن فعلى القاذف التعزير. وشرائط الإحصان خمسة الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا حتى لو زنا في عمره مرة واحدة ثم تاب وحسنت توبته بعد ذلك ثم قذفه قاذف فلا حد عليه فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا أو أقام القاذف أربعة يشهدون عليه بالزنا سقط الحد عن القاذف لأن الحد إنما وجب عليه لأجل الفرية. وقد ثبت صدقه وأما الكنايات مثل أن يقول يا فاسق أو يا فاجر أو يا خبيث أو يا مؤاجر أو قال امرأتي لا ترديد لامس فهذا ونحوه لا يكون قذفاً إلا أن يريد ذلك. وأما التعريض مثل أن يقول أما أنا فما زنيت أو ليست امرأتي زانية فليس بقذف عند الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك يجب فيه الحد وقال أحمد هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا. قوله تعالى {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} فيه دليل على أنّ القذف من الكبائر لأن اسم الفاسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة وفي حكم هذا الاستثناء فذهب قوم إلى أنّ القاذف ترد شهادته بنفس القذف وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته بعد التوبة قبلت شهادته سواء تاب بعد إقامة الحد عليه أو قبله لقوله تعالى {إلا الذين تابوا} وقالوا هذا الاستثناء يرجع إلى رد الشهادة وإلى الفسق وإذا تاب تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق. يروى ذلك عن عمر وابن عباس وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وبه قال مالك والشافعي. وذهب قوم إلى أنّ شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب وقالوا الاستثناء يرجع إلى قوله {وأولئك هم الفاسقون} وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي قالوا بنفس القذف لا ترد شهادته ما لم يحد قال الشافعي هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات فكيف تردونها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه. وذهب الشافعي إلى أنّ حد القذف يسقط بالتوبة. وقال: الاستثناء يرجع إلى الكل وعامة العلماء على أنه لا يسقط الحد بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة. فإن قلت إذا قبلت شهادته بعد التوبة فما معنى قوله أبداً ما دام مصرًّا على القذف لأنه أبد كل إنسان مدته على ما يليق به كما يقال شهادة الكافر لا تقبل أبداً يراد بذلك ما دام على كفره فإذا أسلم قبلت شهادته. قوله عزّ وجلّ {والذين يرمون} أي يقذفون {أزواجهم ولم يكن لهم شهداء} أي يشهدون على صحة ما قالوا {إلا أنفسهم} أي غير أنفسهم {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} سبب نزول هذه الآية ما روي عن سهل بن الساعدي أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي فقال لعاصم: أرأيت لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عاصم لعويمر لم تأتني بخير قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألت عنها فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها فجاء عويمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآناً فاذهب فأت بها قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مالك قال ابن شهاب فكانت تلك سنة المتلاعنين» أخرجاه في الصحيحين زاد في رواية ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انظروا إن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمراً إلا وقد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمراً إلا قد كذب عليها» فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه قوله أسحم أي أسود الأدعج الشديد سواج العين مع سعتها وقوله خدلج الساقين أي ممتلئ الساقين غليظهما وقوله، كأنه وحرة بفتح الحاء دويبة كالعظاءة تلصق بالأرض وأراد بها في الحديث المبالغة في قصره (خ) عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبيّ صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحد على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: البينة والحد في ظهرك فقال هلال بن أمية: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه {والذين يرمون أزواجهم} فقرأ حتى بلغ إن كان من الصادقين فانصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما. فجاء فقام هلال بن أمية فشهدوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله يعلم إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفها وقال: إنها موجبة قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: انظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» وفي رواية غير البخاري عن ابن عباس قال «لما نزلت والذين يرمون المحصنات» الآية «قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتى بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ حاجته ويذهب وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج امرأة قط إلا بكراً ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها. فقال سعد يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لا أعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبر الله فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فإنّ الله يأبى إلاّ ذلك فقال صدق الله ورسوله قال فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية من حديقة له فرأى رجلاً مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال: يا رسول الله إني جئت إلى أهلي عشاء فوجدت مع امرأتي رجلاً رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال يا رسول الله إني جئت إلى أهلي عشاءً فوجدت مع امرأتي رجلاً رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به والله يعلم إني لصادق. ما قلت إلا حقاً وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربه قال: واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد بجلد هلال وتبطل شهادته فبينما هم كذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ فأنزل الله والذين يرمون أزواجهم إلى آخر الآيات فقال رسول الله صل الله عليه وسلم أبشر يا هلال فإنّ الله تعالى قد جعل لك فرجاً. فقال: كنت أرجو ذلك من الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلوا إليها فجاءت فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل فكذبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب فهل منكما تائب فقال يا رسول الله قد صدقت وما قلت إلاّ حقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عنوا بينهما فقيل لهلال فشهد أربع شهادات الله إنه لمن الصادقين فقال له عند الخامسة: يا هلال اتق الله فإنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يحدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد {والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} ثم قال للمرأة أشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فقال لها عند الخامسة ووقفها اتقى الله إن الخامسة موجبة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت: والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه فجاءت به غلاماً كأنه جمل أورق على الشبه المكروه، وكان أميراً بمصر لا يدرى من أبوه» الأورق هو الأبيض وروى ابن عباس «أن عويمراً لما لاعن زوجته خولة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي الصلاة جامعة فصلّى العصر ثم قال لعويمر: قم فقام فقال: أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ثم قال في الثانية أشهد بالله إني رأيت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثالثة أشهد بالله إنها لحبلى من غيري وإني لمن الصادقين. ثم قال في الرابعة أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربع أشهر وإني لمن الصادقين ثم قال في الخامسة لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال ثم أمره بالقعود فقعد. ثم قال لخولة قومي فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمراً لمن الكاذبين ثم قالت في الثانية: أشهد بالله إنه مارأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين. ثم قالت في الثالثة أشهد بالله إنى حبلى منه وأنه لمن الكاذبين ثم قالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة: غضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى لله عليه سلم بينهما وقال لولا هذه الأيمان لكان في أمرهما رأي ثم قال: تحينوا الولادة فإن جاءت به أصيهب أثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن سحماء وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به» قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق بشريك. بيان حكم الآية إن الرجل إذا قذف امرأته فموجبه موجب قذف الأجنبية وجوب الحد عليه إن كانت محصنة أو التعزير إن كانت غير محصنة غير أن المخرج منهما مختلف، فإذا قذف أجنبياً أو أجنبية يقام عليه الحد إلا أن يأتي بأربعة يشهدو بالزنا أو يقر المقذوف بالزنا فيسقط عنه الحد. وفي الزوجة إذا وجد أحد هذين أو لاعن سقط عنه الحد فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة لأنه الرجل إذا رأى مع امرأته رجلاً بما لا يمكنه إقامة البينة ولا يمكنه الصبر على العار، فجعل الله اللعان حجة له على صدقه فقال تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} وإذا أقام الزوجة بينة على زناها أو اعترفت هي بالزنا سقط عنه الحد واللعان إلا أن كان هناك ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه وإذا أراد الإمام أن يلاعن بينهما بدأ بالرجل فيقيمه ويلقنه كلمات اللعان فيقول: قل أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا وإن كان قد رماها برجل بعينه سماه في اللعان ويقول كما يلقنه الإمام. وإن كان ولد أو حمل يريد نفيه يقول وإن هذا الولد أو هذا الحمل لمن الزنا ما هو مني. ويقول في الخامسة علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة وإذا أتى بكلمة من كلمات اللعان من غير تلقين الإمام لا تحسب فإذا فرغ الرجل من اللعان وقعت الفرقة بينه وبين الزوجة وحرمت عليه على التأبيد وانتفى عنه النسب وسقط عنه الحد ووجب على المرأة حد الزنا، فهذه خمسة أحكام تتعلق بلعان الزوج.
{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} قوله عزّ وجلّ: {ويدرأ} أي يدفع {عنها العذاب} أي الحد {أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} حكم الآية أن الزوج إذا لاعن وجب على المرأة حد الزنا فإن أرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به وتقول في الخامسة علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به ولا يتعلق بلعانها إلا هذا الحكم الواحد وهو إسقاط الحد عنها. ولو أقام الزوج بينة لم يسقط الحد عنها باللعان. وعند أصحاب الرأي لا حد على من قذف زوجته بل موجبة اللعان فإن لم يلاعن حبس حتى يلاعن فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة من اللعان حبست حتى تلاعن. وعند الآخرين اللعان حجة صدقه والقاذف إذا قعد عن إقامة البينة على صدقه لا يحبس بل يحد كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة. وعن أبي حنيفة موجب اللعان وقوع الفرقة ونفي النسب وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعاً وقضاء القاضي وفرقة اللعان فرقة فسخ عند الأكثرين وبه قال الشافعي وتلك الفرقة متأبدة حتى لو أكذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه لا فيما له فيلزمه الحج ويلحقه الولد لكن لا يرتفع تأبيد التحريم. وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق فإذا أكذب نفسه جاز له أن ينكحها وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل وكل من صح يمينه صح لعانه حراً كان أو عبداً مسلماً كان أو ذمياً. وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين فإن كان أحد الزوجين رقيقاً أو ذمياً أو محدوداً في قذف فلا لعان بينهما وظاهر القرآن حجة لمن قال: يجري اللعان بينهما لأن الله تعالى قال والذين يرمون أزواجهم ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو نائبه ويغلظ اللعان بأربعة أشياء بتعدد الألفاظ وبالمكان والزمان وأن يكون بمحضر جماعة من الناس، أما تعدد الألفاظ فيجب ولا يجوز الإخلال بشيء منها، وأما المكان فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن فإن كان بمكة فبين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي سائر البلاد في الجامع عند المنبر، وأما الزمان فهو أن يكون بعد العصر، وأما الجمع فأقله أربعة والتغليظ بالجمع مستحب فلو لاعن الحاكم بينهما وحده جاز وفي التغليظ بالزمان والمكان قولان.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} قوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} أي لعاجلكم بالعقوبة ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان {وأن الله تواب} أي يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة {حكيم} أي فيما فرضه من الحدود. قوله عزّ وجلّ {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم} الآيات سبب نزولها ما روي عن ابن شهاب قال حدّثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا. وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصاً وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضاً قالوا: قالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيها خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: عائشة أقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه قالت: وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون إني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي. فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين». وفي رواية «موغرين في نحر الظهيرة قالت فهلك من هلك في شأني وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم ثم ينصرف فذلك الذي يريبني مه ولا أشعر بالشر حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب حين فرغنا من شأننا نمشي فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت: أتسبين رجلاً قد شهد بدراً؟ فقالت: يا هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قلت: ما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً إلى مرضي فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: كيف تيكم قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قال وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقن الخبر من قبلها فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فأتيت أبوي قالت فقلت لأمي يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به فقالت: يا بنية هوني على نفسك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت: فقلت سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله قالت: فأما أسامة فاشار عليه بما يعلم براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ومن الود فقال أسامة هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيراً وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت له بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله وهو على المنبر: من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي» وفي رواية «في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي قالت: فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال: أنا أعذرتك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كانا من إخواننا من الخزرج. أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه كان رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي جمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أظن أن البكاء فالق كبدي قالت فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم جلس ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء قالت فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسن منه قطرة وقلت لأبي أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال: قال والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به الناس حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني منه بريئة لتصدقني فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وإن الله مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحياً يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم والله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه قال فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله» وفي رواية «أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي قالت: فأنزل الله عزّ وجلّ {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم} العشر الآيات فأنزل الله عزّ وجل هذه الآيات في براءتي قالت فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى قوله غفور رحيم} فقال أبو بكر بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه وقال والله لا أنزعها منه أبداً قالت عائشة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بن جحش عن أمري فقال يا زينب ما علمت أو ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلا خيراً قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك» قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط زاد في رواية قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله فو الذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط فقلت: ثم قتل بعد في سبيل الله شهيداً «. هذا حديث متفق على صحته أخرجاه في الصحيحين زاد البخاري في رواية عن عروة: عن عائشة» والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي ابن سلول وقال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقرره ويشيعه ويستوشيه قال عروة لم يسم لي من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى. قال عروة كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه الذي قال: فإن أبي ووالدتي وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء أخرجاه من حديث مسروق قال: دخلت على عائشة وعندها حسان ينشدها شعراً ببيت من أبياته فقال: حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فقالت عائشة: لكنك لست كذلك قال مسروق فقلت لها: تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} قالت وأي عذاب أشد من العمى. وقالت: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حل غريب ألفاظ هذا الحديث قوله: وكلهم حدثني طائفة أي قطعة من حديثها، قوله كان أوعى أي أحفظ له، قولها آذن أي أعلم بالرحيل، قولها فإذا عقد لي من جزع أظفار وهو نوع من الخرز وهو الحجر اليماني المعروف، قولها لم يهبلن أي يكثر لحمهن فيثقلن، قولها إنما يأكلن العلقة من الطعام هو بضم العين أي البلغة من الطعام وهو قدر ما يمسك الرمق، قولها وليس بها منهم داع ولا مجيب أي ليس بها أحد لا من يدعو ولا من يرد جواباً، قولها فتيممت أي قصدت قولها قد عرس من وراء الجيش فأدلج، التعريس نزول المسافر في آخر الليل للراحة والإدلاج بالتشديد سير آخر الليل وبالتخفيف سير الليل كله، قولها باسترجاعه هو قوله {إنا لله وإنا إليه راجعون} قولها فخمرت أي غطيت وجهي بجلبابي أي إزاري، قولها موغرين في نحر الظهيرة الوغرة شدة الحر وكذا نحر الظهيرة أي أولها، قولها والناس يفيضون أي يخوضون ويتحدثون، قولها وهو يريبني يقال رابني الشيء يريبني أي شككت فيه، قولها ولا أرى من النبيّ صلى الله عليه وسلم اللطف أي الرفق بها واللطف في الأفعال الرفق وفي الأقوال لين الكلام، قولها حتى نقهت أي أفقت من المرض والمناصع المواضع الخالية تقضي فيها الحاجة من غائط وبول وأصله المكان الواسع الخالي والمرط كساء من صوف أوخز، قولها تعس مسطح أي عثر وهو من الدعاء على الإنسان أي سقط لوجهه، قولها يا هنتاه أي بلهاء كأنها تنسبها إلى البله وقلة المعرفة، قولها لا يرقأ لي دمع أي لا ينقطع وقول بريرة إن رأيت بمعنى النفي أي ما رأيت منها أمراً أغمصه بالصاد المهملة أي أعيب والداجن الشاة التي تألف البيت وتقيم به: قوله صلى الله عليه وسلم: من يعذرني أي من يقوم بعذري إن أنا كافأته على سوء صنيعه إن عاتبت أو عاقبت فلا تلوموني على ذلك قولها وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه أي من قبيلته قولها ولكن احتملته الحمية أي حمله الغضب والأنفة والتعصب على الجهل للقرابة، قوله فتثاور الحيان أي ثاروا ونهضوا للقتال والمخاصمة، قولها فلم يزل يخفضهم أي يهون عليهم ويسكن، قوله صلى الله عليه وسلم إن كنت ألممت قيل هو من اللمم وهو صغائر الذنوب وقيل معناه مقارفة الذنب من غير فعل، قولها قلص دمعي أي انقطع جريانه، قولها ما رام أي ما برح من مكانه والبرحاء الشدة والكرب والجمانة وجمعها جمان فسري عنه أي كشف عنه وقول زينب أحمي سمعي وبصري أي أمنعهما أن أخبر بما لم أسمع ولم أبصر، قولها وهي التي كانت تساميني من السمو وهو العلو والغلبة فعصها الله أي منعها من الوقوع في الشر بالورع وقول الرجل ما كشفت من كنف أي من ستر أنثى قوله ويستوشيه أي يستخرجه بالبحث عنه والاستقصاء فيه وقول حسان في عائشة حصان بفتح الحاء يقال امرأة حصان أي متعففة رزان أي ثابتة ما تزن أي ترمي ولا تتهم بريبة أي بأمر يريب الناس حيية وتصبح غرثى أي جائعة والغرث الجوع من لحوم الغوافل جمع غافلة، والمعنى أنها لا تغتاب أحداً مما هو غافل عن مثل هذا الفعل وقول عائشة في حسان إنه كان ينافح أي يناضل ويخاصم عن الله ورسوله: وأما التفسير فقوله عزّ وجلّ {إن الذين جاؤوا بالإفك} أي بالكذب والإفك أسوأ الكذب لكونه مصروفاً عن الحق وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء والمدح بما كانت عليه من الحصانة والشرف والعقل والعلم والديانة فمن رماها بالسوء فقد قلب الحق بالباطل وجاء بالإفك، عصبة أي جماعة منكم أي عبد الله بن أبي ابن سلول ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش زوجة طلحة ابن عبيدالله. فإن قلت عبدالله بن أبي ابن سلول كان رأس المنافقين فكيف قال منكم. قلت كان ينسب إلى الإيمان في الظاهر وقيل قوله منكم خرج مخرج الأغلب فإنّ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة كانوا من المؤمنين المخلصين {لاتحسبوه شراً لكم} يعني الإفك الخطاب لعائشة وصفوان وقيل لعائشة ولأبويها وللنبيّ صلى الله عليه وسلم ولصفوان {بل هو خير لكم} يعني أن الله آجركم على ذلك وأظهر براءتكم وشهد بكذب العصبة وأوجب لهم الذم وهذا غاية الشرف والفضل لكم {لكل امرئ منهم} أي من العصبة الكاذبة {ما اكتسب من الإثم} أي جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه {والذي تولى كبره} يعني تحمل معظمه وبدأ بالخوض فيه وأقام بإشاعته وهو عبدالله بن أبي ابن سلول {منهم} من العصبة {له عذاب عظيم} يعني عذاب النار في الآخرة روي «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا جميعاً ثمانين ثمانين».
|